أزول فلاون .. السلام عليكم
لونجة
ابنة " تريل"
فلتكن حكايتي جميلة ولتمض كخيط طويل !
يحكى أنه في زمن ما ، في فصل الشتاء وتحت الثلوج ، خرج رجلان للصيد في الجبل . وقد اصطادا حجلة ، وعندما ذبحاها سال دمها على الثلج وصبغته بلونها الأحمر القاني ، فقال أحدهما :
ـ ما أسعد ذلك الرجل الذي يتزوج امرأة ببشرة بيضاء ناصعة كالثلج وحمراء قانية كالدم !
فأجاب الآخر :
ـ ليس هناك سوى لونجة ابنة " تسريل " من تملك هذه الصفات : بيضاء كالثلج وحمراء كالدم .
قال الأول :
ـ وأين توجد لونجة ابنة " تسريل " هذه ؟
فأشار الآخر إلى جهة وقال :
ـ هناك ، بعيدا جدا .
حينذاك تخلى ذلك الرجل الذي يحلم بامرأة بيضاء كالثلج وحمراء كالدم عن الحجلة لرفيقه ، ووضع بندقيته على كتفه ثم ذهب متبعا الاتجاه الذي أشار إليه رفيقه .
صار الرجل يمشي، ويمشي حتى مر يوم كامل وليلة عندما توغل في إحدى الغابات ، ثم شاهد دخانا يتصاعد من بين الأشجار فقال في نفسه : << لن أتوقف عن السير حتى أبلغ مصدر هذا الدخان>> واتجه نحوه وعندما بلغه وجد منزلا صغيرا محاطا بسياج من الأشواك . فنادى على أهل المنزل ، فخرجت منه فتاة سبحان من خلقها : كانت بشرتها بيضاء كالثلج وقرمزية كالدم .
قال الرجل :
ـ لقد ضيعت طريقي ولا أدري إلى أين أذهب . أليس بإمكانك أن تؤويني هذه الليلة باسم الله ؟
فأجابت :
ـ أنا ابنة " تسريل " . ابنة الغولة . وأمي قد ذهبت إلى الصيد وهي لن تعود إلا عند مغيب الشمس فإن كنت موافقا على الدخول رغم ذلك فادخل .
قال :
ـ أنا موافق .
ودخل الرجل .
وقدمت إليه الفتاة الماء والطعام ، وعند قدوم الليل خبأته في مخبأ تحت الأرض وأخفت مدخله باستعمال قصعة خشبية كبيرة وضعتها بالمقلوب .
وما إن انتهت لونجة من وضع الرجل في مكان آمن حتى سمعت أمها وقد جاءت . كانت تسريل الغولة تمشي متثاقلة : كانت تلمس الأرض والسماء في آن واحد ، أما رأسها فكان دغلا حقيقيا من الأشواك ، ولم تكن تستطيع الدخول إلا منحنية . ما إن تخطت عتبة الدار حتى تنشقت الهواء بعمق وقالت :
ـ إنني أشم رائحة ليست منا ، إنني أشم رائحة إنسان !
فردت لونجة :
ـ لقد مر متسول من هنا فأعطيته الصدقة باسم الله . ولا شك أنك تشتمين رائحته .
فتقدمت تسريل ثم أمرت ابنتها :
ـ قدمي لي عشائي !
قدمت لونجة إليها العشاء ثم ذهبت وجلست على القصعة الخشبية التي تغطي مدخل المخبأ الأرضي .
وعندما أنهت تسريل عشاءها قالت :
ـ هذه الليلة سأصبغ بالحناء كل القصاع والأواني الخشبية التي عندي .
ثم صارت تناديها بأسمائها ، فجاءت كلها واحدة بعد الأخرى ، ماعدا تلك التي كانت لونجة جالسة عليها فإنها لم تتحرك . فنادتها الغولة من جديد ، فقالت لونجة :
ـ دعيها فغدا يأتي دورها . أنا جالسة عليها وقد استرحت في جلستي هذا المساء فلا داعي لإزعاجي .
كانت تسريل تحب ابنتها فلم تلح عليها ، ثم لم تلبث أن غلبها النعاس فنامت .
تظاهرت لونجة بالنوم كذلك ، لكنها في الحقيقة كانت تترصد اللحظة التي تسمع فيها كل الحيوانات التي أكلتها أمها طيلة النهار وقد بدأت تصيح . وعند حوالي منتصف الليل بدأت تسمع الأبقار والعجلان وهي تخور ، والماعز والشياه تثغو ، والحمار ينهق والدجاج يقوقئ ، فاغتنمت الفرصة وخلصت الرجل وقالت له :
ـ أسرع ، إنها نائمة ، أطلق ساقيك للريح !
لكنه أجابها :
ـ لن أغادر إلا وأنت رفقتي ، لأنني ما أتيت إلى هنا إلا من أجلك .
فقالت :
ـ حسن .
ثم غادرا منزل الغولة .
لكن سياجا من الأشواك اعترض طريقهما ، فقالت لونجة :
ـ يا سياج العسل والزبدة ، دعنا نمر .
انفتح سياج الشوك من أجل أن يدعهما يمران ثم انغلق وراءهما . وصارا يجريان ويجريان بكل قوتهما ، لكن نهرا غزيرا ظهر أمامهما ، فتوسلت لونجة :
ـ يا نهر العسل والزبدة ، دعنا نمر .
انسحبت مياه النهر بين يدي لونجة والرجل ، وما إن عبرا إلى الضفة الأخرى حتى عادت المياه كما كانت .
استيقظت تسريل من نومها بينما كانت لونجة قد هربت . فنادتها الغولة :
ـ لونجة ، لونجة !
لكنها كانت تنادي في الفراغ . انحنت على المخبأ الأرضي ثم شمت الهواء ، ثم نظرت إلى سرير لونجة ففهمت ، ثم صاحت :
ـ لونجة ابنتي خانتني ، لونجة تخلت عني !
ثم غادرت للبحث عنها ، وعند وصولها إلى سياج الأشواك قالت بصوت ساخط :
ـ يا سياج القمامة ، دعني أمر !
لكن أشواك السياج صارت أكثر حدة وأضخم من قبل ، ومع ذلك عبرته تسريل لكن رجلاها امتلآ بالجروح وقد تمزقت ملابسها . وصارت تجري وتجري كالمخبولة وهي تصرخ :
ـ لونجة ، لونجة لقد خنتني وتخليت عني !
لكن لونجة كانت قد غيرت سيدها !
ثم استوقفها النهر ، فصرخت الغولة حانقة :
ـ يا نهر الأقذار ، أريد أن أمر !
لكن النهر أخذ يهدر بمياهه بصورة مهددة . ارتمت تسريل فيه فجرفتها موجة كبيرة ، لكن قبل أن يلتهمها النهر قالت للمرة الأخيرة :
ـ فليخنك الله كما خنتني يا لونجة !
ولكن الرجل والفتاة البيضاء كالثلج والحمراء كالدم كانا بعيدين عندئذ . وصلا إلى أحد المرتفعات فقال الرجل وهو يمد يده :
ـ قريتي هناك ، وسنصل إليها عند حلول الظلام .
ثم صارا يقفزان . ثم مشيا طويلا في الجبل ، فإذا بهما يبصران نسرين يتقاتلان ، فأخذ الرجل عصا وراح يفرق بينهما ، لكن أحد النسرين ــ وكان أكبرهما ــ انتقم منه بأن حمله تحت جناحه وطار به في الهواء . عندئذ صاحت لونجة :
ـ آه ، لقد خدعت أمي وهاأنذا أخدع بدوري !
لكن الرجل صاح قائلا لها :
ـ امشي أمامك وستجدين عين ماء وستأتي إليها زنجية هي خادمتنا مع أحمرتنا وأوانينا . يجب أن تقتليها ثم بعد ذلك البسي جلدها الأسود ، ومن ثم اتبعي الأحمرة وسيأخذونك إلى منزلنا وهناك قولي لأبي : إن ابنك قد اختطفه نسر .
شاهدت لونجة الزنجية تقترب من العين ، تركتها تملأ مواعينها وشحنتها على ظهور الأحمرة ثم اقتربت منها وقتلتها ولبست جلدها .
قادتها الأحمرة إلى منزل الرجل فقالت للأب عندما وصلت :
ـ إن نسرا قد أخذ ابنك تحت جناحه وطار به في السماء !
انتظر الأب بضعة أيام آملا في أن يطلق النسر فلذة كبده . بعد ذلك قرر أن يستشير " الشيخ الحكيم " فطمأنه هذا الأخير قائلا :
ـ إن النسر لن يقتل ولدك . وأنا متأكد أنه لم يقتله بما أنه وضعه تحت جناحه ، من أجل أن تنقذ ابنك إليك ما تفعله : اصعد إلى أعلى قمة ، وهناك قم بذبح أجمل وأسمن عجلة تجدها ، عندئذ ستهبط النسور لأكلها . والنسر الذي يحتجز ابنك تحت جناحه سيكون أثقل من النسور الأخرى ولن يطير إلا بصعوبة ، وما عليك عندئذ إلا أن تضربه بعصا من القصب على جناحه وسيترك ابنك يسقط .
تسلق الأب إذن أعلى قمة ، وذبح العجلة الأجمل ثم ابتعد ليراقب النسور . رآها تهبط فراح يراقبها وهي تأكل . كان أكبرها حجما بالكاد يستطيع الحركة من شدة ثقله ، وعندما كان على وشك الطيران ضرب الأب على جناحه بقصبة فسقط الرجل على العشب ضعيفا خائر القوى كأنه فرخ صغير ، فحمله الأب وأخذه .
اعتنت لونجة بالرجل الذي تحبه وقد كان يعاني الجوع ، فلم تطعمه إلا باللحم المشوي والبيض والعسل والزبدة والفواكه . فصار قويا من جديد كما كان . وبعد ذلك ذهب الرجل إلى والده وقال له :
ـ أريد أن أتزوج الزنجية .
قال الأب ساخطا مغتاظا :
ـ كيف سنجرؤ على مقابلة جيراننا بعد ذلك ؟ أتريد لنا العار ؟
لكن الرجل قال ملحا :
ـ سأتزوجها أو أموت .
بعد ذلك تزوجها . وقد تلقت لونجة كهدايا كل الأشياء النفيسة وقد وضعن خادمة تحت تصرفها .
وانتظر الرجل حتى الليل لكي يخلص زوجته من الجلد المستعار الذي يخفي جمالها . وفي الصباح كانت الخادمة أول من انبهر بهذا الجمال عندما جاءت لتقدم للزوجين فطورهما ، ثم عادت لتخبر الجميع :
ـ سيدتي ليست زنجية ! سيدتي بيضاء كالثلج وحمراء كالدم !
وانطلق الجميع مسرعين ليشاهدوا المعجزة . وقد كان للرجل أخ أصغر فقال :
ـ كيف حدث هذا ؟
فأجاب الرجل :
ـ لم أفعل سوى أن نطقت بهذه الكلمات : << يا ابنة الزنوج ، انسلخي من جلدك ! >>
فقال الأخ الأصغر في نفسه : << إن كانت زنجية قد تكشفت عن جمال كهذا فكيف يكون الأمر مع كلبة ؟ >>
وهكذا تزوج من كلبة ، وفي الليل عندما اختلى بها في غرفته قال لها :
ـ يا ابنة الكلاب ، انسلخي من جلدك !
فأجابته بنباح ساخط . ثم أمرها من جديد :
ـ انسلخي من جلدك ، يا ابنة الكلاب !
فهجمت عليه وأكلته .
وفي الصباح عندما دخلت الخادمة لتحيي الزوجين وتقدم لهما فطورهما ، وجدت الكلبة تحرس بغيرة بقايا زوجها ، ففرت الخادمة وهي تصيح :
ـ سيدي هيكل عظمي ، وسيدتي رابضة فوقه . سيدي هيكل عظمي ، وسيدتي رابضة فوقه !
حكايتي كجدول ماء ، حكيتها لأبناء الكرام ! .
تنميرت ..شكرا